بمناسبة شهر رمضان الكريم، رأيت أن أكتب هذا الأسبوع عن المسلمين من أصول أمريكية، تمييزاً لهم عن مسلمين هاجروا إليها من بلدان أخري، وتجنسوا بإحدي الجنسيتين الكندية أو تلك الخاصة بالولايات المتحدة. ولأن البلدين في أمريكا الشمالية، حيث فرص الحياة الأفضل، والحرية الأرحب، فقد قصدهما ملايين المهاجرين من شتي أنحاء الأرض.
وكان من الأواخر بينهم العرب والمسلمون، الذين وفدوا في أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة من بلاد الشام، وحيث اشتد قهر الإمبراطورية العثمانية علي شعوبها من غير الأتراك. ثم تصاعدت موجات أخري خلال الخمسين سنة الأخيرة من القرن العشرين نتيجة استبداد وفساد أنظمة الحكم في معظم البلدان الإسلامية، من باكستان إلي إيران ومصر وسوريا والسودان والجزائر وليبيا. ويقدر عدد المسلمين في القارة الأمريكية بحوالي عشرة ملايين، منهم مليون علي الأقل، من المولودين لآباء وجدود أمريكيين، واعتنقوا الإسلام بإرادتهم الحرة.
ومن أولئك الذين اعتنقوا الإسلام بمحض إرادتهم مئات الألوف من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية الذين أُجبر أسلافهم علي العبودية، بعد حرب أهلية طاحنة في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٦٠-١٨٦٤) ورغم انتصار الشمال بقيادة الرئيس أبراهام لنكولن، علي الجنوب، والإلغاء الرسمي للعبودية، إلا أن ممارسات التفرقة العنصرية استمرت إلي منتصف القرن العشرين، بل ولم تختف تماماً إلي الوقت الحاضر، وقد كان ذلك مدعاة لآلاف من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، أي أحفاد العبيد، للبحث عن جذورهم في القارة السوداء.
وعن التراث الديني لتلك القارة، والذي اشتمل علي الإسلام، فذهب أحد زعمائهم إلي أن الإسلام هو دين الجنس الأسود، وأن الجنس الأبيض هو "جنس شيطاني" (White Devils)، وغير الرجل اسمه إلي "الحاج محمد"، رغم أنه لم يحج إلي البيت الحرام في مكة، وأطلق الرجل علي أتباعه اسم "المسلمون السود"(Black Muslim) ولكن بعض هؤلاء الأتباع اكتشفوا، من خلال الطلبة العرب المسلمين، أن الإسلام كما يمارسه أصحابه في مواطنهم الأصلية هو دين لا يعرف التفرقة علي أساس اللون أو العنصر.
وشجعوا أحد هؤلاء الأتباع وهو "مالكولم إكس"(Malcolm X) علي أن يحج إلي مكة، ويزور مصر، حتي يتعرف علي الإسلام والمسلمين بطريقة مباشرة. وفعلاً، حينما طاف مالكولم إكس حول الكعبة، ورأي مسلمين أفارقة سودًا مثله، وآخرين سمرًا، وبيضًا وشقرًا، أيقن عالمية وتعددية الإسلام، كدين للحرية والمساواة. وعاد إلي أمريكا بفهم جديد ورسالة جديدة. وكان مالكولم إكس مارداً، حاد النظرات، قوي الشكيمة، وخطيباً مفوهاً. وجذبت كتاباته وأحاديثه ملايين الأمريكيين الزنوج. ولكن القدر لم يمهله لاستكمال رسالته. فقد طالته يد الاغتيال بعد عودته من مكة بسنوات قليلة.
ولكن سيرته والأفلام التي أنتجت عن حياته أبقت علي الإسلام كدين احتجاجي يعتنقه آلاف الأمريكيين الزنوج سنوياً، ويأتي بعضهم للدراسة في الأزهر بمصر، أو يتردد علي عشرات المدارس والمساجد التي أنشأها مسلمون أمريكيون أصلاء سود، أو مسلمون وافدون.
وقد غير كثير من المسلمين الأمريكيين السود أسماءهم إلي أسماء إسلامية ـ مثلما فعل بطل الملاكمة العالمي كاشيوس كلاي، الذي غير اسمه إلي "محمد علي"، أو لاعب كرة السلة الأشهر، الذي غير اسمه إلي "كريم عبد الجبار". ومن هؤلاء أيضاً من التقيته مؤخراً في مؤتمر عن "الإيمان والحرية"، وهو الذي أطلق علي نفسه اسم " الشيخ طالب عبد الرشيد"، وهو إمام مسجد "الأخوة الإسلامية"، بحي هارلم الشهير في مدينة نيويورك.
وقد اعتنق الإمام طالب الإسلام عام ١٩٧١، أي منذ ستة وثلاثين عاماً، متأثراً بمالكولم إكس. وأصبح إماماً للمسجد عام ١٩٨٩، بعد أن درس وأدي فريضة الحج.. وهو الآن أحد الزعماء الدينيين المرموقين في نيويورك والولايات المتحدة. كما أصبح عضواً في العديد من المجالس واللجان الرئاسية للحوار والتعاون بين أصحاب الديانات المختلفة التي يحفل بها المجتمع الأمريكي.
ومن الشخصيات الأخري التي التقيتها في مؤتمر "الإيمان والحرية"، الذي دعي إليه الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر"، شخصية نسائية فذة هي إنجريد ماتسون (Ingrid Mattson)، أستاذة الدراسات الإسلامية، ومديرة مركز ماكدونالد للدراسات الإسلامية في هارتفورد. وكانت أحد تلاميذ العلامة الباكستاني ظفر الرحمن، بجامعة شيكاغو، إحدي أهم الجامعات الأمريكية، ومنها حصلت إنجريد علي الدكتوراه، عام ١٩٩٩ ولكنها قبل ذلك قضت عدة سنوات بين باكستان وأفغانستان، في أعمال إغاثة اللاجئين.
واعتنقت الإسلام عام ١٩٨٧ ومنذ ذلك الوقت تفانت في خدمة الإسلام والمسلمين، فكراً، وعلماً، وممارسة. واعترف لها المسلمون في أمريكا الشمالية بهذا المجهود، فانتخبوها كأول رئيسة للجمعية الإسلامية في أمريكا الشمالية(ISNA) ، وهي تضم حوالي مائة ألف عضو عامل، يحضر ثلثهم المؤتمر السنوي الذي يعقد في عطلة نهاية الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، في إحدي المدن الكبري.
إن انتخاب إنجريد ماتسون لأن تكون مديرة لأقدم مركز للدراسات الإسلامية، ثم لتكون أول رئيسة لأهم تنظيم للمسلمين في القارة الأمريكية هو تعبير صادق عما يحدث للإسلام والمسلمين في القارة الأمريكية. فهم عادة في الجيل الأول الوافد يكونون أكثر تزمتاً ودفاعية عن دينهم. ويدفعهم ذلك إما إلي "العدوانية" أو "الانسحاب" من معترك الحياة العامة. ولكن مع الجيل الثاني يكونون قد تمرسوا بفلسفة وأساليب الحياة في المجتمع الأمريكي. وهو مجتمع مهما كرهنا حكومته وسياساتها، إلا أنه من أكثر مجتمعات العالم انفتاحاً، ومساواة، وتعددية، وحرية. لذلك، يقصده التواقون إلي هذه القيم وهذه الفرص من كل أنحاء العالم، ومنهم العرب والمسلمون.
ويجري عليهم ما جري علي غيرهم من "أمركة"، يسميها علماء الاجتماع "الإناء الصاهر"(Melting Pot) فالثقافة الأمريكية وأنظمة العمل والسياسة، هي بمثابة ماكينة ضخمة، يدخلها كل وافد بشكله وطبعه الأصلي من ناحية، ويخرج منها منصهراً ومختلفاً من الناحية الأخري. وكأي شيء ينصهر مع أشياء أخري، لا تختفي صفاته الأصلية تماماً، ولكن يظهر عليها تغيير محسوس وملموس.
من ذلك أنه يصبح أكثر تسامحاً وتقبلاً للآخر المختلف عنه ديناً وطائفة ولغة. فأغلب الظن أنه سيعمل في مكان مع آخرين يختلفون عنه في صفات كثيرة. وبسبب تعددية هذا الاختلاف، لابد من ضوابط يتعلم الجميع احترامها، للعمل، وللثواب والعقاب والتعايش.
وهو يدرك بسرعة أن الأداء الجيد في الدراسة أو العمل أو الرياضة أو الترفيه ـ يتم تقديره مادياً ومعنوياً. وربما لهذا السبب تظهر في المجتمع الأمريكي، رغم كل مشاكله، الكفاءات والعبقريات، أكثر مما تظهر في مجتمعات أخري أكبر منه سكاناً (مثل الصين والهند)، أو أكثر منه ثراء مثل غرب أوروبا وبروناي والخليج. وما كان لمصري عربي مسلم، مثل أحمد زويل، أن يجد ما وجده من فرص وإمكانيات للقيام بالبحوث العلمية المتميزة، والتي أوصلت جائزة نوبل إليه، إلا في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي.
وقد تعلم المسلمون الأمريكيون أن يناضلوا بنفس الأدوات الأمريكية لأخذ حقوقهم والدفاع عن أنفسهم كأفراد وجماعات، لذلك فرغم ما تعرض له بعضهم من تفرقة أو اضطهاد، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، فإنهم لم يتركوا أو يفرّوا أو يهجروا، ولكن قاوموا بوسائل قانونية سلمية، وذهبوا بقضيتهم للرأي العام الأمريكي، الذي هو في الأصل يتكون من مهاجرين سابقين، أي مواطنين من ذوي الأقدمية. بل إن حملة العلاقات العامة التي قامت بها المنظمات والجماعات الإسلامية ـ مثل تلك التي تقودها الدكتورة إنجريد ماتسون، الشقراء، والإمام طالب عبد الرشيد الزنجي الأسود، أدت إلي انحسار التفرقة والاضطهاد بسرعة. وأكثر من ذلك أقبل الأمريكيون بمعدلات متسارعة، في السنوات الست التالية علي تعلم اللغة العربية ودراسة الإسلام. وأصبح هناك طلب كبير علي المؤهلين لتدريس هذه الموضوعات، ليس فقط في الجامعات ولكن أيضاً في المدارس الثانوية.
ولأن أمريكا - رغم كل سيئات حكومتها - ديمقراطية، فقد تعلم مسلموها تنظيم أنفسهم والمشاركة السياسية. وأصبح لهم أعضاء في البرلمانات المحلية، وأخيراً في الكونجرس، بعد انتخابات نوفمبر ٢٠٠٦، وهم الذين يصرّون أن يحلفوا اليمين علي "القرآن"، كتابهم المقدس، بدلاً عن الإنجيل، الكتاب المقدس لغيرهم. وقد أقرتهم المحاكم والمجالس المنتخبة، علي ممارسة هذا الحق.
إن جزءاً من عظمة وخلود الإسلام، هو أن معتنقيه وجدوا فيه من الآيات الإيمانية والروحية والعلمية ما يمكّنهم من التكيف في بيئات جغرافية مختلفة، وثقافات متنوعة، من الصين إلي الأرجنتين، ومن الجزيرة العربية إلي جزيرة مانهاتن الأمريكية. وقد دخلت مائدة الإفطار الرمضانية كتقليد مستحدث في البيت الأبيض سنوياً.. فاللهم أعز الإسلام بمعتنقيه الجدد من الأمريكيين. ورمضان كريم.